سورة المدثر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


قال الواحدي: قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء، ففزع ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء، فصبه عليه، وقال: «دثروني دثروني»، فدثروه بقطيفة، فقال: {يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} ومعنى {يأَيُّهَا المدثر}: يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي: تغشى بها، وأصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما.
وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبي: {المتدثر} على الأصل، والدثار: هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار: هو الذي يلي الجسد، وقال عكرمة: المعنى: يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها. قال ابن العربي: وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك {قُمْ فَأَنذِرْ} أي: انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم. وقيل: الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته. وقيل: إعلامهم بالتوحيد.
وقال الفراء: المعنى قم فصلّ، وأمر بالصلاة {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} أي: واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد. قال ابن العربي: المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلاً إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه. قال الزجاج: إن الفاء في: {فكبر} دخلت على معنى الجزاء، كما دخلت في: {فأنذر}.
وقال ابن جني: هو كقولك: زيداً فاضرب أي: زيداً اضرب، فالفاء زائدة. {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه، وحفظها عن النجاسات، وإزالة ما وقع فيها منها. وقيل: المراد بالثياب العمل. وقيل: القلب. وقيل: النفس. وقيل: الجسم. وقيل: الأهل. وقيل: الدين. وقيل: الأخلاق. قال مجاهد، وابن زيد، وأبو رزين، أي: عملك فأصلح.
وقال قتادة: نفسك فطهّر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس.
وقال سعيد بن جبير: قلبك فطهّر، ومن هذا قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ***
وقال عكرمة: المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة. وقال: أما سمعت قول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع
والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرم
وقول الآخر:
ثياب بني عوف طهارى نقية ***
وقال الحسن، والقرظي: إن المعنى، وأخلاقك فطهّر؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، ومنه قول الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق *** ويحيى طاهر الأثواب حر
وقال الزجاج: المعنى، وثيابك فقصر؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض، وبه قال طاوس، والأوّل أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي. وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل: أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة. {والرجز فاهجر} الرجز: معناه في اللغة: العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً؛ لأنها سبب الرجز. قرأ الجمهور: {الرجز} بكسر الراء. وقرأ الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وحفص، وابن محيصن بضمها.
وقال مجاهد، وعكرمة: الرجز: الأوثان، كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] وبه قال ابن زيد.
وقال إبراهيم النخعي: الرجز المأثم، والهجر الترك.
وقال قتادة: الرجز إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت.
وقال أبو العالية، والربيع، والكسائي: الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب.
وقال السديّ: الرجز بضم الراء الوعيد، والأوّل أولى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قرأ الجمهور: {ولا تمنن} بفك الإدغام، وقرأ الحسن، وأبو اليمان، والأشهب العقيلي بالإدغام، وقرأ الجمهور: {تستكثر} بالرفع على أنه حال، أي: ولا تمنن حال كونك مستكثراً. وقيل: على حذف أن، والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع. قال الكسائي: فإذا حذف أن رفع الفعل. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: {تستكثر} بالنصب على تقدير أن، وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر} بزيادة أن. وقرأ الحسن أيضاً، وابن أبي عبلة: {تستكثر} بالجزم على أنه بدل من تمنن، كما في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً * يضاعف لَهُ} [الفرقان: 68، 69]، وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف، كما في قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل
بتسكين أشرب.
وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله: {تستكثر} لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن؛ لأن المنّ غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي.
واختلف السلف في معنى الآية. فقيل المعنى: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. وقيل: لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها، قاله عكرمة، وقتادة. قال الضحاك: هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق، وأباحه لأمته.
وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل متين: إذا كان ضعيفاً.
وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير.
وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته. وقيل: لا تمنن بالنبوّة، والقرآن على الناس، فتأخذ منهم أجراً تستكثره.
وقال محمد بن كعب: لا تعط مالك مصانعة.
وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.
{وَلِرَبّكَ فاصبر} أي: لوجه ربك، فاصبر على طاعته وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك وثوابه.
وقال مقاتل، ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
وقال ابن زيد: حملت أمراً عظيماً، فحاربتك العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: اصبر تحت موارد القضاء لله. وقيل: فاصبر على البلوى. وقيل: على الأوامر والنواهي. {فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور} الناقور: فاعول من النقر، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت، ومنه قول امرئ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته ***
ويقولون: نقر باسم الرجل: إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد: النفخة الثانية. وقيل: الأولى، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين} فإن معناه: عسر الأمر عليهم. وقيل: العامل فيه ما دل عليه {فَذَلِكَ} لأنه إشارة إلى النقر، ويومئذٍ بدل من إذا، أو مبتدأ، وخبره يوم عسير، والجملة خبر {فذلك}، وقيل: هو ظرف للخبر؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير، وقوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيد لعسره عليهم؛ لأن كونه غير يسير، قد فهم من قوله: {يَوْمٌ عَسِيرٌ}. {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي: دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى: دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني، أي: دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأوّل أولى. قال المفسرون: وهو الوليد بن المغيرة. قال مقاتل: يقول: خلّ بيني وبينه، فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره، وعظيم جحوده لنعم الله عليه. وقيل: أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان يقال في الوليد بن المغيرة: إنه دعيّ.
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} أي: كثيراً، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئًا بعد شيء. قال الزجاج: مالاً غير منقطع عنه، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه. قيل: كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار. وقيل: أربعة آلاف دينار. وقيل: ألف دينار. {وَبَنِينَ شُهُوداً} أي: وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم.
قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف.
وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولداً.
وقال مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: معنى {شهوداً} أنه إذا ذكر ذكروا معه، وقيل: كانوا يشهدون معه ما كان يشهده، ويقومون بما كان يباشره {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي: بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، والتمهيد عند العرب التوطئة، ومنه مهد الصبيّ.
وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي: يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم، وإشراكه بالله. قال الحسن: لم يطمع أن أدخله الجنة، وكان يقول: إن كان محمد صادقاً، فما خلقت الجنة إلاّ لي. ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال: {كَلاَّ} أي: لست أزيده. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً} أي: معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال: عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه، وهو يعرفه، فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق، ويعدل عن القصد، ومنه قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا *** إني كبير لا أطيق العندا
قال أبو صالح: عنيداً معناه مباعداً.
وقال قتادة: جاحداً.
وقال مقاتل: معرضاً {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي: سأكلفه مشقة من العذاب، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق. وقيل المعنى: إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، وجملة: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} تعليل لما تقدّم من الوعيد، أي: إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه، أي: هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: هيأت الشيء إذا قدّرته، وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه، وقدّر في نفسه ما يقول، فذمه الله، وقال: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي: لعن وعذب كيف قدر، أي: على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع، أي: على أيّ حال كانت منه. وقيل المعنى: قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر:
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء عليه، والتكرير في قوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} للمبالغة والتأكيد. {ثُمَّ نَظَرَ} أي: بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.
{ثُمَّ عَبَسَ} أي: قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً، يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب. وقيل: عبس في وجوه المؤمنين. وقيل: عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَبَسَرَ} أي: كلح وجهه وتغير، ومنه قول الشاعر:
صبحنا تميماً غداة الحفار *** بشهباء ملموسة باسره
وقول الآخر:
وقد رابني منها صدود رأيته *** وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول: وجه باسر إذا تغير واسودّ.
وقال الراغب: البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته، أي: طلبها في غير أوانها. قال: ومنه قوله: {عَبَسَ وَبَسَرَ} أي: أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون: بسر المركب وأبسر أي: وقف لا يتقدّم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي: صرنا إلى البسور. {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} أي: أعرض عن الحقّ، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن {فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: يأثره عن غيره ويرويه عنه. والسحر: إظهار الباطل في صورة الحقّ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة، يقال: أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تحاربتما *** بين للسامع والآثر
{إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر} يعني: أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه. ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه، قال الله عزّ وجلّ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي: سأدخله النار، وسقر من أسماء النار، ومن دركات جهنم. وقيل: إن هذه الجملة بدل من قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} أي: وما أعلمك أيّ شيء هي، والعرب تقول: وما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة في أمره، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة {مَا سَقَرُ} خبر المبتدأ. ثم فسر حالها، فقال: {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} والجملة مستأنفة لبيان حال سقر، والكشف عن وصفها. وقيل: هي في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم؛ لأن قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} يدل على التعظيم، فكأنه قال: استعظموا سقر في هذه الحال، والأوّل أولى، ومفعول الفعلين محذوف. قال السديّ: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً.
وقال عطاء: لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً. وقيل: هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك: صدّ عني وأعرض عني {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} قرأ الجمهور: {لوّاحة} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقيل: على أنه نعت لسقر، والأوّل أولى. وقرأ الحسن، وعطية العوفي، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر، وابن أبي عبلة، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، يقال: لاح يلوح، أي: ظهر، والمعنى: أنها تظهر للبشر. قال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله: {وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 36]. وقيل: معنى {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} أي: مغيرة لهم ومسوّدة. قال مجاهد: والعرب تقول: لاحه الحر والبرد والسقم والحزن: إذا غيره، وهذا أرجح من الأوّل، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا *** تقول لشيء لوحته السمائم
أي: غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
لوّح منه بعد بدن وشبق *** تلويحك الضامر يطوى للسبق
وقال الأخفش: المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة *** سقاها به الله الرهام الغواديا
والمراد بالبشر: إما جلدة الإنسان الظاهرة، كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس، كما قال الأخفش. {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها. وقيل: تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة. وقيل: تسعة عشر صفاً من صفوفهم. وقيل: تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة، والأوّل أولى. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. قرأ الجمهور: {تسعة عشر} بفتح الشين من عشر، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وطلحة بن سليمان بإسكانها.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: إن أوّل ما نزل من القرآن: {يأَيُّهَا المدثر} فقال له يحيى بن أبي كثير: يقولون إن أوّل ما نزل: {اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ} [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي، فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعباً، فرجعت، فقلت: دثروني فدثروني، فنزلت: {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {والرجز فاهجر}» وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت، والجمع ممكن.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: {يأَيُّهَا المدثر} فقال: دثر هذا الأمر، فقم به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه {يأَيُّهَا المدثر} قال: النائم {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل {والرجز فاهجر} قال: الأصنام {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تعط تلتمس بها أفضل منها.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً. {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: من الإثم. قال: وهي في كلام العرب نقيّ الثياب.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: من الغدر، لا تكن غدّاراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: لا تلبسها على غدرة، ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع
وأخرج الطبراني، والبيهقي في سننه عنه أيضاً: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضاً: {فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور} قال: الصور {يَوْمٌ عَسِيرٌ} قال: شديد.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} قال: الوليد بن المغيرة.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته؛ قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وكذا أخرجه ابن جرير، وابن إسحاق، وابن المنذر، وغير واحد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} قال: غلة شهر بشهر.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} قال: ألف دينار.
وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قال: هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {عَنِيداً} قال: جحوداً.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً» قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج. قال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة انتهى، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: جبل في النار.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} قال: لا تبقي منهم شيئًا، وإذا بدّلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} قال: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {لَوَّاحَةٌ} قال: محرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء: أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه ساعتئذٍ {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.


لما نزل قوله سبحانه: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدّ، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً} يعني: ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة؛ لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة. وقيل: لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} أي: ضلالة لِلَّذِينَ استقلوا عددهم، ومحنة لهم، والمعنى: ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم. وقيل: معنى {إِلاَّ فِتْنَةً} إلاّ عذاباً، كما في قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي: يعذبون، واللام في قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} متعلق ب {جعلنا}، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم. قاله قتادة، والضحاك، ومجاهد، وغيرهم، والمعنى: أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة؛ ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم.
{وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا} وقيل: المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. وقيل: أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون} مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى: نفي الارتياب عنهم في الدّين، أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك {وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} المراد بالذين في قلوبهم مرض: هم المنافقون؛ والسورة وإن كانت مكية، ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب، وهو كائن في الكفار. قال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بقوله: {والكافرون} كفار العرب من أهل مكة، وغيرهم، ومعنى {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}: أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل.
قال الليث: المثل الحديث، ومنه قوله: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي: حديثها، والخبر عنها {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء} أي: مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره، وهو قوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ}. {يُضِلُّ الله مَن يَشَاء} من عباده، والكاف نعت مصدر محذوف {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} من عباده، والمعنى: مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين، يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقيل المعنى: كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء، ويهدي إليها من يشاء.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} أي: ما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه من الملائكة، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد.
وقال عطاء: يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله، والمعنى: أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه. ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال: {وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} أي: وما سقر، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم. وقيل: {وَمَا هِىَ} أي: الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر.
وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد. وقيل: {مَا هِىَ} أي: عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر؛ ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار. وقيل: الضمير في {وَمَا هِىَ} يرجع إلى الجنود.
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال: {كَلاَّ والقمر} قال الفراء: {كلا} صلة للقسم، التقدير، أي: والقمر. وقيل المعنى: حقاً والقمر. قال ابن جرير: المعنى ردّ زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم أي: ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية. {واليل إِذْ أَدْبَرَ} أي: ولى. قرأ الجمهور: {إذا} بزيادة الألف، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع، وحفص، وحمزة: {إذ} بدون ألف، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر، وأدبر لغتان، كما يقال: أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال: دبر الليل وأدبر: إذا تولى ذاهباً. {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} أي: أضاء وتبين {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر، أي: إنّ سقر لإحدى الدواهي، أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى، وقال مقاتل: إن الكبر اسم من أسماء النار. وقيل: إنها أي: تكذبيهم لمحمد لإحدى الكبر. وقيل: إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر:
يابن المعلى نزلت إحدى الكبر *** داهية الدهر وصماء الغير
قرأ الجمهور: {لإحدى} بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه: {إنها لحدى} بدون همزة.
وقال الكلبي: أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها. {نَذِيراً لّلْبَشَرِ} انتصاب {نذيراً} على الحال من الضمير في {إنها}، قاله الزجاج.
وروي عنه، وعن الكسائي، وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 2] أي: قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر.
وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدّر. وقيل: إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذاراً، وقيل: إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أوّل السورة. وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: منصوب بتقدير ادع. وقيل: منصوب بتقدير ناد أو بلغ. وقيل: إنه مفعول لأجله، والتقدير: وإنها لإحدى الكبر؛ لأجل إنذار البشر. قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نذير، أو هو نذير.
وقد اختلف في النذير، فقال الحسن: هي النار. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو رزين: المعنى أنا نذير لكم منها، وقيل: القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} هو بدل من قوله: {لّلْبَشَرِ} أي: نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل: فاعل المشيئة هو الله سبحانه، أي: لمن شاء الله أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر، والأوّل أولى.
وقال السديّ: لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}. قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: قال أبو الأشدّ: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: وحدّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف خزّان جهنم فقال: «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لهم مثل قوّة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم».
وأخرج الطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له: إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ}»
وأخرج أحمد عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أصبع إلاّ عليه ملك ساجد» وأخرجه الترمذي، وابن ماجه. قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {إِذْ أَدْبَرَ} قال: دبور ظلامه.
وأخرج مسدّد في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن قوله: {واليل إِذْ أَدْبَرَ} فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان، ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها.


قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي: مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل: رهين؛ لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة. {إِلاَّ أصحاب اليمين} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم.
واختلف في تعيينهم. فقيل: هم الملائكة. وقيل: المؤمنون. وقيل: أولاد المسلمين. وقيل: الذين كانوا عن يمين آدم. وقيل: أصحاب الحقّ. وقيل: هم المعتمدون على الفضل دون العمل. وقيل: هم الذين اختارهم الله لخدمته {فِي جنات} هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله، ويجوز أن يكون {في جنات} حالاً من {أصحاب اليمين}، وأن يكون حالاً من فاعل {يتساءلون}، وأن يكون ظرفاً ل {يتساءلون}، وقوله: {يَتَسَاءلُونَ} يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون أي: يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأوّل يكون {عَنِ المجرمين} متعلقاً ب {يتساءلون} أي: يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون {عن} زائدة، أي: يسألون المجرمين.
وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} هو على تقدير القول، أي: يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين لهم: ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أدخلكم في سقر، تقول سلكت الخيط في كذا: إذا دخلته فيه. قال الكلبي: يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان ما سلكك في النار. وقيل: إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم: ما سلككم في سقر. قال الفراء: في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} أي: من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا. {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} أي: لم نتصدق على المساكين. قيل: وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات. {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين} أي: نخالط أهل الباطل في باطلهم. قال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه.
وقال السديّ: كنا نكذب مع المكذبين.
وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم: كاذب مجنون ساحر شاعر. {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} أي: بيوم الجزاء والحساب {حتى أتانا اليقين} وهو: الموت، كما في قوله: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99].
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} أي: شفاعة الملائكة والنبيين، كما تنفع الصالحين. {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} التذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب {معرضين} على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور، أي: أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى. ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، ومعنى مُّسْتَنفِرَةٌ: نافرة، يقال: نفر واستنفر، مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية. قرأ الجمهور: {مستنفرة} بكسر الفاء، أي: نافرة، وقرأ نافع، وابن عامر بفتحها، أي: منفرة مذعورة، واختار القراءة الثانية أبو حاتم، وأبو عبيد. قال في الكشاف: المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له، وحملها عليه، {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي: من رماة يرمونها، والقسور الرامي، وجمعه قسورة، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان. وقيل: هو الأسد، قاله عطاء والكلبي. قال ابن عرفة: من القسر بمعنى القهر؛ لأنه يقهر السباع. وقيل: القسورة أصوات الناس. وقيل: القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة الرماة.
وقال ابن الأعرابي: القسورة أوّل الليل، أي: فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأوّل أولى، وكلّ شديد عند العرب فهو: قسورة، ومنه قول الشاعر:
يا بنت كوني خيرة لخيره *** أخوالها الحيّ وأهل القسورة
ومنه قول لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا *** أتانا الرجال العابدون القساور
ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر:
مضمر تحذره الأبطال *** كأنه القسوّر الرهال
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد. قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله. والصحف الكتب واحدتها صحيفة، والمنشرة المنشورة المفتوحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} [الإسراء: 93] قرأ الجمهور: {منشرة} بالتشديد. وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف. وقرأ الجمهور أيضاً: بضم الحاء من صحف. وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها. ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} يعني: عذاب الآخرة؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات. وقيل: كلا بمعنى حقاً. ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} يعني: القرآن، أو حقاً إنه تذكرة، والمعنى: أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه.
{فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: فمن شاء أن يتعظ به اتعظ. ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} قرأ الجمهور: {يذكرون} بالياء التحتية. وقرأ نافع، ويعقوب بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله: {إلاّ أن يشاء الله} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال. قال مقاتل: إلاّ أن يشاء الله لهم الهدى {هُوَ أَهْلُ التقوى} أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته {وَأَهْلُ المغفرة} أي: هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} قال: مأخوذة بعملها.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {إِلاَّ أصحاب اليمين} قال: هم المسلمون.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب: {إِلاَّ أصحاب اليمين} قال: هم أطفال المسلمين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {حتى أتانا اليقين} قال: الموت.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في قوله: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} قال: هم الرماة رجال القسيّ.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس قال: القسورة الرجال الرماة القنص.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال.
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس {مِن قَسْوَرَةٍ} قال: هو ركز الناس يعني: أصواتهم.
وأخرج أحمد، والدارمي، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ وصححه، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} فقال: قال ربكم: «أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس مرفوعاً نحوه.